Thursday, May 5, 2016

عمـــان

رنا سمارة

يسألني كثيرون منذ أن سافرت هذا السؤال.. وهاأنا أجيب.. أنا لا أشتاق إلى عمّان.. لا أشتاق إلى الباعة المتسولين في الشارع الذين يجعلون تنفس الهواء المنعش من شباك سيارتك أمراً مستحيلاً في ظلّ أيديهم الممتدة وألسنتهم التي تحاصرك بالتوسل مرة وبالتوعد مرة أخرى.. 

لا أشتاق إلى وظيفة أكدح فيها بعمل يضيع ربيع شبابي ويقتل كل ذرة من إبداعي وروحي كي أحصل في نهاية الشهر على رقم لا يجعلني أحلم بأبعد من يومي –وأنا صاحبة حلم يمتد لسنوات من الآن- والأنكى من ذلك أنني يجب أن أكون ممتنة ومحظوظة إن حصلت على هذا الرقم أساساً وإن لم أرهن خدماتي ووقتي وأيامي مقابل لا شيء تماماً!..

لا أشتاق إلى صوت مذيعين يصمون آذاننا منذ الصباح النديّ بألسنتهم التي تلهج بالتملق والتسحيج المقرف ويصورون لي مدينتي وكأنها المدينة الفضلى أثناء توجهي إلى عملي المذكور سابقاً في كل تلك الظروف..

لا أشتاق إلى الظروف التي أراها وأنا متوجهة إلى عملي المذكور..

لا أشتاق إلى السير على شوارع تتشقق من أول مطر ينزل في الشتاء بسبب البنية التحتية الفاشلة..

لا أشتاق إلى منظر أطفال يتجمدون من البرد في قاعات مدارسهم بسبب فقدان أبسط مقومات الحياة الكريمة..

لا أشتاق إلى حديث أفراد عائلة حول تناول اللحمة ذلك الشهر كأحد أحلامها المستحيلة.. لا أشتاق إلى يقيني بأن يوم تعطل سيارتي هو يوم كارثة ومصيبة بكل معنى الكلمة بسبب عدم وجود وسائل نقل عام فيها الحد الأدنى من الحضارة..

لا أشتاق إلى شعوري بالقهر عندما أقف لما يزيد عن الساعة أحترق تحت أشعة الشمس الحارة وأنا أرجو من التاكسي أن يقوم بإيصالي وهو يرفض لأنني لم أختر الوجهة التي يروق لها مزاجه.. لا أشتاق إلى مجتمع يقيم نجاح الفتاة أو فشلها بحسب حالتها الاجتماعية وكونها نجحت في اجتذاب “العريس اللقطة” أو لا، مهما حققت من إنجازات حقيقية كانت لتفخر بها دولة بحالها، لكنها تتحطم إذا كانت يدها تخلو من محبس العسل..

لا أشتاق إلى فكر يقيم نجاح الشاب أو فشله بامتلاكه الشقة والسيارة، وعدد نجوم الفندق الذي سيقيم فيه ليلة زفافه والتي ستحدد بطبيعة الحال مدى فشله أو نجاحه، مهما كان عدد النجوم التي يعانقها شغفه وإبداعه، وكمية الإنجازات والطموح والفكر العظيم الذي يملكه فكله لا قيمة له..

لا أشتاق إلى دفن الدولة لمواهب مبدعيها، ويا ليتها تقتصر على عدم دعمهم.. لا بل تتفنن تفنناً في قتل هذه المواهب وانتزاعها من الجذور بحيث تقنع الموهوب أنه لا أحد سوى مجنون في مدينة غريبة لا تفهمه ولا يفهمها..

أتدرون لماذا لا أشتاق أيضاً؟!.. أنا لا أشتاق إلى ابتسامة أمي كل صباح وقبلتها بينما نتناول فنجان القهوة سوياً..

لا أشتاق إلى نقاش سياسي حاد أخوضه مع والدي بكل ما أوتيت من عناد حتى يحضنني بنظراته متفاجئاً بأن طفلته المدللة أصبحت صبية..

لا أشتاق إلى سريري ووسادتي التي تعرف أكثر من أي أحد عمق أحلامي ولا أحد أكثر منها عايش كمية دموعي المنسكبة في لحظات اهتزازي وثقة بسماتي في لحظات إنجازي..

لا أشتاق إلى أول رجل تفتح في عينيه زهر الياسمين في روحي، وعرفت معه كيف نرى في عزّ الشتاء والضباب ربيعاً يرقص وورداً وفراشات فرحة.. لا أشتاق إلى زهر اللوز أول تفتح الربيع..

لا أشتاق إلى صوت أطفال الحارة وقت الظهيرة يلعبون نفس الألعاب التي كنا نلعبها منذ أكثر من خمس عشرة سنة..

لا أشتاق إلى فنجان قهوة بوجه يعدل المزاج ويجعلك تفهم معنى عبارة “لا بن إلا بن العميد”..

لا أشتاق إلى شارع واحد يجمع محبي بطونهم فيتركهم يتنقلون في حيرة بين الشاورما والكلاج والكنافة والكوكتيل.. لا أشتاق إلى رائحة الأرض أول نزول المطر، وكيف تبدو عمّان كعروس اغتسلت وتألقت بعد أن عانقها المطر بحنان عنيف في الليلة السابقة..

لا أشتاق إلى ركوة العرب التي باتت بيتي الأول وعنواني قبل بيتي الذي أنام فيه..

لا أشتاق إلى شارع الرينبو الذي يجعلك قادراً على أن تتنفس حب عمّان في رئتيك بدل الهواء..

لا أشتاق إلى صديقاتي وأشقاء روحي الذين أبتسم معهم من قلبي حدّ الثمالة وقلبي يرقص في حالة نشوة لا توصف..

لا أشتاق إلى طوابير الناس تحمل صحونها لسكب الحمص والفلافل صباح الجمعة وفي الناحية الأخرى تهبّ رائحة خبز الطابون الساخن الذي تذوب معه كل ذرة من قلبك..

لا أشتاق إلى حفل يحييه طارق الناصر في المدرج الروماني فتبدأ الأمطار بالهطول في الدقائق الأولى وبدل أن يتوقف الحفل كما يحصل في أي دولة يصر الجمهور على الجلوس على الدرجات التي تعشقت بالمطر غير مكترثين لإصابتهم بالمرض، لأنهم مصابون بحالة عشق لا تنتهي لهذا البلد وهذه الموسيقى، فيقوم الموسيقي بوصفه المطر بأنه خير يعكس نقاء القلوب التي تحاصره بحبها ويصر على إكمال الحفلة التي كانت من أجمل حفلات العمر رغم تغير كل الترتيبات..

لا أشتاق إلى وسط البلد الذي يضج بالحياة عندما يموت كل ما هو حي، والذي يتميز أيضاً عن أي دولة بالعالم بكونه يبيع أفلاماً منسوخة غير رسمية بشكل رسمي..

لا أشتاق إلى البريق الذي يلمع في عيوني عندما يطلبون مني أن أصف عمّان، وهو البريق الذي حاولت أن أنقله إلى القراء في حروف روايتي الأولى “أنتِ في عيوني” والتي كرستها مقطوعة عن الحب والجمال والروحانيات والألفة في هذه المدينة..

لا أشتاق إلى صوت الأذان تسمعه من أي منطقة بلا تحديد ولا استثناء فتغشى نفسك السكينة والرحمة.. لا أشتاق إلى لمّة أهلي وأقاربي حول المدفأة ونحن نلتهم الكستناء المشوية والتي تصبح في غضون لحظات أهم من أي وجبة ممكن أن تتناولها في أكثر المطاعم الفاخرة.. لا أشتاق إلى لهفتنا مهما كبرنا وتشوقنا كي “يمسك الثلج” على الأرض ولا يذوب كي نشاهد المدينة عروساً التفت بلونها الأبيض..

لا أشتاق إلى أن أخرج قبل منتصف الليل بقليل في شوارع المدينة بلا خوف ولا ذرة قلق من أن يصيبني مكروه أو يتعرض لي أحد في مدينة هي حضني وسكانها هم أهلي.. لا أشتاق إلى لحظة شروق الشمس في عمّان، والتي تمنحك يقيناً بأنه مهما أظلمت الدنيا وسدّت الطرقات فلكل صبح حكاية بداية جديدة.. 

صدقوني أنا لا أشتاق أبداً إلى عمّان.. فكلمة أشتاق ليست الكلمة الصحيحة.. أنا.. أكاد أذوب شوقاً إليها.

No comments:

Post a Comment